الياس فياض

الياس فياض

الأديب والمحامي والوزير والنائب

 

الياس فياض

أجمل صورة قلمية رسمت للشاعر والأديب والصحافي والقاضي الياس فياض تلك التي رسمها أمين نخلة في جريدة “البيرق” لمنشئها الأخطل الصغير (بشارة الخوري) جاء فيها:

“يطالعك فياض في عقله المتين ولحمه المتراكب والواحة العريضة، فترى هضبة لا يكاد الطرف يحيط بها من أقصاها الى أقصاها، فإذا كان ماشياً حسبتها في زلزال. وإذا توقف ظننتها استقرت على حال! ثم بلفتك عينان ورمتان لا تستقران من قلق كأنهما ركبتا فوق زيبق فتحس في نفسك آنساً وتستشعر انبساطاً. ولقد يعجب الناظر الى ذلك الرجل العريض البادن كيف تتضح منه لطافة التعبير ورقة المعاني، ولكن عجبه يبطل كله بعد أن يجلس إليه ويستمتع بحضور ذهنه ومضاء ذكائه”.

“وفياض في المجلس يفتش عن الكلمة البالغة تفتيشاً. فهو كالطائر الطلق يسطق حيث الماء والانداء وملاعب الأفياء. فإذا كان المجلس مقفراً من لسان ندي أو ذهن مورق، لوى عنه بعنقه أو أخذ العصا وألقاها على ذراعه اليمنى وخرج على وجهه.

ولشاعرنا ــ والكلام لا يزال لأمين نخلة ــ قهقهة “يشهد” له بها كل من خالطه ودخل في عشرته! فإذا وقعت النكتة في قلبه وقوع النقطة في الـ “”ن”، صعد ــ دونما تحفز ــ بضحكة مهللة يترجرج لها صدره ويتدحرج على خديه وشاربيه دمعات غب دمعات حتى ليبيت يعوزه المنديل. ولهذه القهقهة الفياضية البريئة الي يطل بها القلب من بين الثنايا دلالة على طيب ذلك القلب وسموحته ورقته”.

وفياض في الحديث مرقرق الأسلوب لا يفت جليسه ولا يكده، فحديثه في الماء في الجبل المسلسلة على مهل وسكون! وحذار أن تحاول منح قطرة واحدة حين تتوقف تلك العين عن التفجير، فإنك تلقى جديداً! لذك إن صاحبنا به غمة ولا تنجلي فإذا أنس ساعة بصحب أو بحديث مغمته ما برحت موضعها كالجمرة خلل الرماد”.

 

من بلاد الحصن

يتحدر الشاعر الياس فياض من عائلة بيروتية قديمة، يقول عنها المؤرخ عيسى المعلوف، إن جدها الأول “فياض” هو أخ جد اليازجيين” وإن الشقيقين قدما لبنان معاً من بلاد الحصن، وفيه توزعا. أحدهما سكن الشويفات وكفرشيما، والآخر بيروت. وفي الوقت الذي راح المؤرخ معلوف يتبسط في ذكر العائلة اليازجية وأعلامها وأسباطها، وما قامت به من جليل الأعمال في خدمة الأدب واللغة العربية، اكتفى بالإشارة الى صديقيه نقولا فياض الخطيب المصقع والشاعر الثائر الياس صاحب هذه الترجمة.

 

نشأة فياض

ولد الياس فياض في بيروت عام 1872 في بيئة فتنها الأدب والشعر، فما كان ينهي دراسته الثانوية حتى وجد نفسه محاطاً بنخبة من أدباء عصره فيهم الأديب والكاتب والشاعر. نذكر منهم: الشيخ اسكندر العازار وطانيوس عبده وجرجي باز وقسطنطين يني، وجرجي باز وقسطنطين يني، وجرجي شاهين عطية وشقيقه نقولا فياض وغيرهم، كانوا نخبة من الرفاق يتناشدون الشعر ويتجاذبون وادر الشعراء، هذا يميل الى البحتري وذاك الى المتنبي. هذا معجب بعمر بن أبي ربيعة وذاك بأبي نواس.

والياس فياض كان من المعجبين بأبي نواس لرقته وصفائه، وربما أثره على المتنبي الضخم الألفاظ الفخم الديباجة، الناطح السحاب بقوافيه، كأنه يبني بقصائده ناطحات السحاب. إن شعر أبي نواس ينشد في مجالس اللهو والطرب، وانه ليفتن لب سامعه ويلعب بعواطفه، بينما هو عند المتنبي يدعو الى امتشاق الحسام أو العصا.

لا تشترِ العبد إلا والعصا بيده       إن العبيد لأنجاس مناكيد

في حين ينشد أبو نواس:

ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر        ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر

وكأن الياس فياض يجنح الى ايثار الخمر على العصا وهو الذي كان يطول انعكافه على بنت الخان.

 

بين القاهرة وباريس

إن حياة اللهو والترف هذه إن كانت ترضي نزعات وميول الياس فياض المخلوق شاعراً، وأديباً يتذوق الكلمة الحلوة، فإنها لم ترض أهله وأقاربه والمحيطين به، إذ رغبوا اليه دراسة الحقوق. فانتقل مكرهاً الى القاهرة لتلبية هذه الرغبة، فتسجل في المدرسة الفرنسوية هناك. ثم قصد الى باريس لتقديم الامتحان وأقام فيهاعامين وأكثر، انصرف خلالها الى دراسة الشعر والأدب الفرنسي الى جانب تحصيله شهادة الليسانس فيها. بعدها قرر العودة الى مصر لممارسة المهنة، فقامت في وجهه صعوبات وعراقيل حالت دون ذلك. فاتجه نحو كتابة الروايات المسرحية رغبة في الاستفادة والانتفاع الماديين. ويروى عنه أنه احتاج مرة الى المال، وكان اسكندر فرح أحد كبار رواد المسرح في مصر. يلحّ عليه في طلب رواية منه فحبس نفسه يومين كاملين في غرفة وأخرج له فيهما احدى رواياته المعربة.

 

بؤس وإفلاس

وفي مصر، أدرك أنه قرر الانتحار، وسرت الشائعة بين رفاقه وأخوانه، فاتفقوا فيما بينهم على جمع بعض المبالغ لدفع هذه الفكرة المشؤومة عنه. وحين سأله أحدهم: كيف تنوي الانتحار؟ فكان جوابه مبتكراً: قال: ارتمي بين أيدي النساء أبتغي اللذة، ولا أنفك عن ابتغائها حتى أموت!”.

إن الأزمة النفسية التي كان يعاني منها الياس فياض آنذاك، لم تلبث أن انفرجت بانفراج الأزمة العالمية. وابتسم له الحظ بعد طول عبوس. فما أن وضعت الحرب الكبرى اوزارها، وبسط الانتداب الفرنسي سيطرته على لبنان وسوريا، حتى وجد نفسه على مرفأ بيروت بين الأهل والأصحاب وأخوان الصفاء. أحس وهو على ارض الوطن أن رجعته اليه هي أشبه برجعة الدار الى صدفه.. وأن حرارة الاستقبال التي لقيها، انعكست ايجاباً على الحكام الجدد في البلاد، فأسندوا إليه عدداً من الوظائف. عيّن مديراً للبوليس، ثم مستشاراً في محكمة التمييز، ثم مديراً للمعارف، ووزيراً للزراعة، ونائباً في المجلس النيابي اللبناني.

مدير البوليس

زاره مرة الشيخ بشارة الخوري الرئيس الأسبق، في مكتبه في مديرية البوليس. فقال له الياس بعد أن استعرضا معاً ذكريات الماضي والحاضر والمستقبل: “كنت تظن يا صاحبي أنني أجمل سوطاً مزركشاً أو عصا محددة بدلاً من هذا السلاح السلمي الذي لم يستعمله سلفاني في الوظيفة: لا تعجب أنا أواصل العمل ليل نهار لأخرج زحام الطالمين عن الضيف وأؤثر بزوال الوظيفة. أما الحب فلا يؤثر فيه تغير حال”.

وعلق بشارة الخوري على هذا الكلام بقوله: “إن ثقافة القانوني جعلت في نفسه عاطفة العدل نحو المطلومين”.

وعندما نقل الى وظيفة مستشار في محكمة التمييز قال فيه الشيخ بشارة الخوري أيضاً: “كان الياس فياض أول من وضع الاجتهاد الجديد لتطبيق القانون على حاجات العصر. وهذا من أفضل الأعمال لأن العلماء أنفسهم لم يستنكروا ذلك فوضعوا في المبادئ الأساسية لمجلة الأحكام العدلية  مبدأ نظروا به الى المستقبل نظراً ثاقباً فقالوا لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان.

 

الرئيس الشاعر

ومن ألطف ما عرف عنه أيام كان رئيساً للشرطة في بيروت أن شرطياً قصّر في عمله تقصيراً جللاً فاستحق من الرئاسة منع المعاش. فمنع عنه. أما الرئيس (الشاعر) فقد أرسل المعاش الممنوع في غلاف خفي الى عيال الرجل وكان معوزاً، من معاشه الخاص!

كان الياس فياض شاعراً أصيلاً ــ لا أقول أنه من الطبقة الأولى من الشعراء، ولا هو ادعى ذلك ــ في شعره صفاء ونقاء، وتهذيب وصقل، لا التباس فيه، ولا تقعر ولا ابتذال. وهو سهل رقيق صادق العاطفة، كثير الصور.

 

ليالي الصيف في مصر

وإذا أردنا أن نتعرف أكثر الى شاعريته لنتوقف قليلاً أمام نموذج واحد من شعره، وهي القصيدة التي وصف فيها ليالي الصيف في مصر، فإذا كل مقطع من مقاطعها ونتأمله، ندرك حقيقة هذا الشاعر الساحر، سواء في قوة وصفه أو سعة خياله أو رهافة إحساسه، كل ذلك في قالب من الشعر الرقيق طبع بطابع الانسجام، تحس به بكل جوارحك وتفهمه بلا إجهاد ولا تعب فترى الشعور مصدراً في ألفاظ ظاهراً للعيان. نقرأه فتلمسه بفكرك كما تلمس يدك المادة.

من هذه القصيدة قوله:

أذاع في مصر رسول البشر         إن ذكاء غرقت في البحر

فطلع البدر ضحوك الثغر           واقبل النسيم لفطا يسري

ووصفت فوزاً مياه النهر             يا حبذا النيل على ضوء القمر

 

ونثره كشعره

هكذا عاش الياس فياض شاعراً ينظر الى هذه الدنيا من نواحي الجمال فيها، فيصف الحياة في لهوها ومرحها وينقل الى الناس صورها الضاحكة. ولئن اعترضت تفكيره أحياناً صور من نواحي القبح في هذه الدنيا فقد كان يخلع عليها من شاعريته ثوباً يجلوها للناس وهي أقل ما تكون بشاعة.

ونثر الياس فياض مثل شعره، ليس فيه ابهام ولا غموض، بل صراحة ووضوح، وهذا دليل على صفاء القلب وسلامة الطوبة. ونثره أنيق، يتميز بالفصاحة وسلامة التراكيب تقرأ الصفحة منه تلو الصفحة وأنت معجب برشاقة قلمه.

 

الصحافي

وهنا لا بد من الإشارة الى أن الشاعر الياس فياض زوال العمل الصحافي لفترة غير قصيرة. وكانت أول جولاته في هذا الميدان في مجلة المحبة يوم كان الاستاذ نجيب طراد يرأس تحريرها، ويوم كانت  ميداناً لأقلام شباب الطائفة الارثوذكسية في بيروت، وحين قصد مصر اشتغل مع طانيوس عبده في تحرير “الرقيب” وهناك تعرف على نجيب الحداد يوم كان يصدر “لسان العرب” في الاسكندرية. فكتب في اللسان عدة مقالات ومن ثم تولى تحرير جريدة “الرائد” المصرية. وقام بعد ذلك بمكاتبه “البصير” من القاهرة أيام كان خليل مطران يراسل “الاهرام”، فكانا في المراسلة كما كانا في الشعر رفيقي صبا.

وعاون أيضاً سليم سركيس في تحرير مجلة “سركيس” بما كان ينشره فيها من شعره الجيد، هذا عدا عن الجوائز التي كان سركيس يستوهبها ليلهبها بدوره لقاء مقالات أو قصائد رائعة. احتركها الياس فياش لنفسه تقريبا اذ كان المجلى في كل موضوع.

وساهم ايضاً في تحرير جريدة “المحروسة”، كما ساهم في مجلة “الضياء”  للشيخ ابراهيم اليازجي. ناشراً فيها عدة فصول وروايات، وفي أثناء عمله الصحافي رويت عنه طرائف كثيرة. منها أنه كان شديد الكسل، فلا يروقه براح فراشة. وإذا استطاع ان يقضي فيه الليل والنهار فعل. ومنها أنه قل أن يرسل رسالة الى صحيفة في وقتها. فكثيراً ما كان يجلس في آخر ساعة الى طاولة في قهوة فيسود فيها وريقاتها القليلة ثم يهرول مسرعاً الى محطة السكة الحديدية ليرميها في صندوق القطار. وكثيراً ما كان موضع دعب أصحابه وأصدقائه الذين يعرفون حاله فيجيبونه لصرفه ــ مداعبه ــ عن عمله فيسب ويشتم ويغضب. وقل ان عرف الغضب، حتى اذا بقي له ربع ساعة او  اكثر قليلاً تركوه وشأنه يقوم بهذا الواجب الذي فرضته الاقدار عليه وأوجبته الحاجة على نفسه.

هذا هو الياس فياض الأديب، والشاعر، والمحامي، والقاضي والموظف والوزير والنائب الذي كانت حياته عبارة عن قصيدة مزج فيها دموع الالم بدموع الفرح. ولعل هذه هي أصدق صورة لحياة رجل عاش شاعراً ومات شاعراً وربما كان شاعراً في حركاته وأعماله أكثر منه منظوماً، فالحياة لديه تبدأ بابتسامة وتنتهي بنشوة يعقبلها الفناء.

 ألبير خوري

Leave a comment